تقدم .. تألق .. قم يا سيدي وامض فنحن نفتقد عيونك وتقاسيم وجهك وحطتك التي شكلت خارطة الوطن وتوحدت فينا ..
لقد اغتصبوا حلمنا وقتلوا روحنا وأعدموا آخر ما تبقى من ذاكرة الأجيال .. اعترف سيدي أنك أنت وحدك كنت الملهم لقلمي وأفكاري التي طالما راودتني .. فمنذ رحيلك وأنا أبتعد عن اللغة العربية التي افتقدتها .. ولم تعد للكلمات أي معني في حياتي .. وبعد أن اغتصبوا الوطن وقتلوا روح الحياة فينا .. أعترف أنني لم أحاول التفكير في نقطة البدء ولم تعد لحياتي أي معنى سوى أن أمارس شكلية يومي كالأطفال ..
في ذكراك الثالثة وأنت الذكرى فينا .. لم تعد لحياتنا معنى الوجود أو البقاء فقتلوا الوطن واغتالوا الحلم .. ولم تعد الخارطة في الحطة السمراء تتجه ببوصلتها نحو القدس ..
ما أصعب الموقف وما هي تلك الحقائق الدامغة في مخيلة هؤلاء وهم يغتصبون الوطن ويقتلون الفكرة ويدمرون تاريخ شعب ؟!! تناسوا ولم يعد يهمهم الأمر .. تناسوا تاريخ الأجيال .. تناسوا أو لم يعد يهمهم كيف يواجهون الواقع ..
إنها تلك الرؤية بين الفكرة والحقيقة التي نتلمسها ونحاول صياغتها في لحظات الصمت الرهيب والخوف من المجهول والقلق القاتل الذي يلاحقنا..
سيدي .. سيد الشهداء .. سيدي الرئيس الشهيد ياسرعرفات أكتب إليك يا سيدي من بين الحطام .. من غزة الهالكة الآن .. أكتب إليك من غزة المدمرة النازفة دماً .. أكتب إليك من بين آهات الأمهات وصرخات الأطفال .. أكتب إليك من طابور الموت البطيء الذي ينتظرنا .. أكتب إليك من حصارنا الذي يلتف كل يوم حول أعناقنا ليخنق ما تبقى من الأمل فينا .. أكتب إليك سيدي وأنا أتأمل أمواج البحر الحزينة وتلك الشوارع التي ودعتك يوم رحيلك .. يوم رحيلنا معك .. أكتب إليك والألم يعتصرنا والدمع في العيون يبكينا دماً..
أكتب لأنك سيد الفكرة والرؤية والموقف .. أكتب إليك لأنك سيد الرجولة والرجال أنت .. أكتب إليك لأنك أنت ملهمنا ومعلمنا وقائدنا .. والأشياء الجميلة التي تتشكل فينا .. أكتب إليك سيدي لأقول .. افتقدناك موحداً وملهماً وحاسماً وقائداً وجباراً وعزيزاً .. افتقدناك صبوراً وحكيماً وهادياً ومعلماً للأجيال ..
كم نحن بحاجة إليك سيدي !! .. نعتذر منك ألان لأننا تجاوزنا كل حدود الكون وسمحنا أن نخاطبك وأنت بعيد عنا .. وأنت ترحل هناك إلى عالمك خالداً ملهماً للأجيال القادمة..
في اللحظات الصعبة سيدي كانوا يتلون الفاتحة بصوت منخفض أما قبرك .. وفي اللحظات الصعبة سيدي كانوا يفتقدونك فيذهبون تجاهك وأيضاً يتمتمون بآيات الذكر الحكيم ويقولون أين أنت أبا عمار نحن بحاجة إليك .. وعندما يشتد الحصار حصاراً نقف في لحظات الموت البطيء ومن قلب غزة النازف دماً ومن بين آهات الأمهات وأزيز الرصاص وفي تلك الحلكة القاتمة والأيام التي تشتد قسوة وعناداً نخاطبك سيدي يا سيد الفكرة وسيد الدولة يا سيد التكوين فينا .. نخاطبك ونعتذر منك لأننا لم نعد قادرين على الاستمرار في الحياة .. ولم نعد نفهم تلك الأشياء التي تدور من حولنا فقد أصبح القتل عندنا بلا معنى .. والحياة مجرد وقت والكل فينا ينتظر لحظة الفصل .. وما أصعب البكاء والعجز ولحظات الموت البطيء التي ننتظرها..
فيا غزة .. أين أنت يا غزة .. يا مهد العزة والكبرياء .. أين أصبحت وأضحيت من تلك الممارسات الإجرامية القاتلة البعيدة كل البعد عن حضارتنا وفلسطينيتنا ومستقبلنا ..
في غزة يا سيدي يحاولون اليوم احتكار السياسة وممارسة لعبة الكلمات المتقاطعة والرقص على جثث القتلى .. في ساعات الظهيرة أصبح الخوف سيد الموقف .. وفي ساعات المساء ترى الشوارع خالية من المارة ولن تجد إلا رائحة الموت والألم وحطام المركبات والغبار وما تبقى من مخلفات قذرة تملأ الحياة من حولنا .. وإذا ما أردنا أن نخوض في مجريات الحياة والبحث عن معنى لما يجري حولنا أو كان لك أي اعتراض فتجد نفسك بعد ساعة في غرفة العناية المركزة .. وفي أغلب الأحيان تنضم إلى طابور الموت وتصبح رقماً مجرد رقم في سجل الموتى وغالباً تكون أنت الميت الحي الذي لا معنى لوجودك .. وإذا ما حاولت الاستفسار مثلاً عن غلاء الأسعار وعن امتناع المؤذن من إقامة الصلاة في أحد المساجد فيكون سجلك أسود ويضاف إلى رصيد نقاطك النقطة الأخيرة التي يحكم عليك أحد فقهاء القرن الحادي والعشرون بالإعدام إما رمياً بالرصاص أو الضرب حتى الموت أو قطع اللسان والأيدي والأرجل معاً .. فتشكيلة القتل في بلادنا أصبحت متنوعة ومتعددة ووصفات الموت تجد فيها أشكالاً مذهلة للعقل البشري .. كم هو مؤلم واقعنا سيدي وكم هو مؤلم أن أحاول استرجاع الذاكرة من النفق المظلم لأكتب كلماتي إلى سيد روحنا وسيد شهدائنا محاولاً أن أشرح الموقف ومتنقلاً بين رائحة الموت والمزاج الشخصي لهذا القاتل والمقتول الأخير في رقم سجلات الموتى .. وتلك المرأة العجوز التي تبحث عن رشفة ماء وكسرة خبز يابس تحاول أن تسد رمقها قبل أن يأتي يومها القادم..
حالات الفقر والمرض والجوع والعطش والضياع كلها عناوين لموضوعات طالما فكرت بها وعملت من أجل مستقبل أفضل لأجيالنا القادمة وحياة حرة كريمة نعيشها معاً وتجربة ديمقراطية طالبت أنت بها في آخر خطابك أمام المجلس التشريعي لإقرارها ومازال عنوان (المانشيت) الذي كتبته بخط يدي من كلماتك ( السيد الرئيس ياسر عرفات: الوطن يشهد ورشة اعمار كبرى) وتلك الرؤية لممارسة الديمقراطية وضرورة التوجه إلى صناديق الاقتراع من أجل الوطن ومن أجل أن يكتمل حلمنا وأن نكون جنباً إلى جنب ومعاً وسوياً من أجل القدس .. لم تكن العلاقة وليدة الصدفة سيدي الرئيس فهؤلاء من خانوا العهد ونقضوا الأمانة في منتصف النهار وأرادوا أن يخطفوا غزة من فرحة الوطن .. فأصبحنا نعيش في وطن لا نملكه وأصبح الوطن مجرد مسميات وعناوين كبرى لحفلات الاستعراض المتلفزة والبث المباشر للكلمات البراقة والخطب النارية الرنانة ..
ما أصعب أن تعيش في وطنك وأن لا تجد الوطن في داخلك .. ما أصعب أن تفتش عن بقايا الحلم فتجد طريقك مجرد سراب ولحظات معدومة ومعدمة ليس لها أي معنى سوى أنك أنت من ينتظر الموت القادم..
عفواً سيدي الرئيس ..
دائماً كنت تخاطب فلسطين فينا وتعلمنا أن الوطن له بوصلة واحدة .. وطريق واحد .. وخط واحد .. وعنوان واحد هو "وحدتنا الوطنية" .. أما الآن فقد أصبح الدم الفلسطيني في غزة مستباح ومباح والقتل وسفك الدماء بدون أي مبرر هو عنوان العلاقة الفلسطينية الفلسطينية ..
لم يعد أي منا يفرق بين القاتل والقتيل والمقتول فهؤلاء جميعاً في نفس الدائرة .. دائرة الموت التي نعيش فيها ومربع الهلاك الذي حذرتنا منه ونهيتنا عنه ولكن بدون جدوى..
لقد خسرنا الوطن وفقدنا البوصلة وغرقت سفينة فلسطين في بحر الأمواج المتلاطمة ولم يعد ربان السفينة قادراً على إدارة الشراع فكم نحن بحاجة إليك سيدي لتكون هنا .. عفواً أيها الموت .. الذي أخذك منا .. عفواً سيدي قم وانهض فنحن بحاجة إليك .. قم من موتك يا عملاق هذا الزمان يا راعي المسيرة وقائد الدولة ..
أيها الباقي فينا كم نحن بحاجة أن نتوحد حولك وأن نعمل بتعليماتك وأن نحافظ على رسالتك وأن نسير على نهجك وأن نترجم أفكارك إلى واقع نعيشه حباً وحياة..
كم نحن بحاجة إلى نظرتك وتعابير وجهك .. كم نحن بحاجة لقراءة الفاتحة على قبرك لنتوحد حولك من جديد ولتكون أنت القادم فينا .. وأنت الحاضر أيضاً .. فلك العهد سيدي أن نبقى على عهدك .. لك العهد سيدي أن ننهض من ثباتنا وأن لا نسمح لهم باختطاف غزة من بقايا الذاكرة .. لك العهد سيدي أن نحمي الفكرة وأن يبقى أبناء الياسر أبا عمار هم الأوفياء الأمناء على عهدك وكلماتك وتعاليمك فأنت القادم وأنت الباقي فينا يا سيد الفكرة ويا سيد الدولة .. يا سيد التكوين الفلسطيني القادم ..
يا سيدنا يا سيد روحنا لك العهد أن نبقى حولك حارسين نهجك وعلى تعاليمك ماضون ومن أجل فلسطين كل فلسطين على العهد محافظون .. إنها الأمانة التي حملها هؤلاء الفتية وهتفوا بالروح بالدم نفديك يا أبا عمار ولطالما رددت بصوتك الحنون يا فلسطين .. يا فلسطين ..
حقاً إنها مدرسة الياسر صانعة الرجال ومعلمة الأجيال .. حقاً إنها مدرسة الوطن ومدرسة الحياة التي طالما ناضلنا من أجلها ومن أجل مستقبل أفضل لأجيالنا .. لا .. لن تخطفوا الفكرة .. ولن تقتلوا الوطن .. ولن تسقط القلاع .. لأن الياسر هو حارس القلاع .. ومن لا يعرف من هو الياسر عليه مراجعة الموقف قبل فوات الأوان ..
في ذكراك يا أبا عمار لن نقول الوداع بل نقول إلى اللقاء هناك مع الصديقين والشهداء والعليين في الأرض سنلتقي ونكون معاً .. فيا الله أطعمنا الشهادة واجعلنا ممن ارتضيتهم واخترتهم ليحملون اللواء ..